الإسلام دينٌ شاملٌ يتناول مظاهر الحياة كلها، وحتى آداب المشي في
الطريق لم تغفل نصوص الشريعة عن بيانها؛ لأن الطريق حق مشترك بين الناس، والإسلام يجعل الإنصاف في الحقوق المشتركةِ أساساً، فكل ما فيه أذى يأمرهم بالابتعاد عنه، وكل ما فيه خير يأمرهم بالدنو منه.
وللمشي في الطريق آداب، لا بد أن تكون سلوكًا لأولي الألباب، بينتها نصوص الشريعة، فرفعت
سلوك المسلم وجعلته بين الأمم في الطليعة، منها قوله سبحانه وتعالى عن وصية لقمان لولده:
﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:18-19].
فأوصاه ألّا يمشي مشيةَ الخيلاء متكبرًا، وأن يكون في مشيه قاصدًا متوسطًا بين البُطء والإسراع، متزينًا بالسكينة والوقار.
فقد ورد في البداية والنهاية أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نظرت إلى رجلٍ كان يتماوت في مشيته فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء، فقالت:
" كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع" ؛ فالمراد إذاً بالإسراع فيه ما فوق دبيب التماوت.
ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً متماوتاً فقال:
"لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى". ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال:
"ارفع رأسك إن الإسلام ليس بمريض".
وفي سورة الفرقان يقول تعالى :
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ [الفرقان:63]
فأول صفة لعباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هونًا، أي بسكينةٍ ووقار مشيًا لينًا رفيقًا.
وإذا كانت هذه صفة مشيهم فهم مع ذلك يغضون أبصارهم إمتثالًا لقوله تعالى في سورة النور:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، وقوله سبحانه:
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.
بناتُ المسلمين ونساؤهم في مأمن من حركاتهم وكلماتهم، لا يرضون لهنّ مالا يرضونه لأمهاتهم أو أخواتهم أو بناتهم، عن أبي أمامة أنَّ فتًى شابًّا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا فأقبل القومُ عليه فزجَروه وقالوا : مَهْ مَهْ فقال : " ادنُهْ " فدنا منه قريبًا قال : فجلس قال : " أَتُحبُّه لِأُمِّكَ ؟ " قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : " ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم "، قال : " أفتُحبُّه لابنتِك؟" قال : لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : " ولا الناسُ يُحبونَه لبناتِهم "، قال : "أفتُحبُّه لأُختِك؟"، قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : " ولا الناسُ يُحبونَه لأَخَواتِهم"، قال :" أَفتُحبُّه لعمَّتِك؟"، قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال : " ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهم"، قال : " أفتُحبُّه لخالتِك؟ "، قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال : "ولا النَّاسُ يحبونَه لخالاتِهم" قال : فوضع يدَه عليه وقال :" اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ" رواه أحمد.
ومن آداب الطريق التي افتقدناها إلقاء السّلام - تحية الإسلام – على من عرفت وعلى من لم تعرف؛ فقد روى البخاري أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم
: " أيُّ الإسلامِ خيرٌ ؟ قال: تُطعِمُ الطعامَ ، وتَقرَأُ السلامَ ، على من عَرَفتَ ، وعلى من لم تَعرِفْ".
ويقول صلى الله عليه وسلمفي الحديث الذي صححه الألباني
: "المسلمُ من سلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ"، فيأمن الناس من بطش يده وسلاطة لسانه، يحفظه عن السخرية والهمز واللمز وجرح المشاعر، فرُبّ كلمة كانت أقوى من طعن الخناجر، وإذا رأى مبتلًا لا يتبعه بنظره فيشعره بالحرج، ولا يتدخل في شؤونه فيسأله عن السبب ، بل يحمد الله أن عافاه وفضّله وعن البلايا أبعده، ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم يتّبع فقد قال:
" ما من رجلٍ رأى مُبْتَلًى، فقال : الحمدُ للهِ الذي عافاني مما ابتلاك به، وفَضَّلَني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلًا ؛ إلا لم يُصِبْهُ ذلك البلاءَ ؛ كائنًا ما كان" رواه الترمذي.
وإذا كانت القاعدة الإسلامية الواردة في الحديث المشهور
" لا ضرر ولا ضرار " فقد أُمرنا بكف الأذى وكل ما فيه إضرار؛ كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم :
" إذا مرَّ أحدُكم في مجلسٍ أو سوقٍ ، وبيدِه نبْلٌ ، فليأخُذْ بنِصالِها . ثمَّ ليأخُذْ بنِصالِها . ثمَّ ليأخُذْ بنِصالِها "، كرر ذلك اللفظ تأكيدًا وتحذيرًا من أذية الناس؛ لأن من شأن المسلم إزالة الأذى عن المسلمين، روى مسلم أن أبا برزة الأسلمي قال: قلتُ : يا نبيَّ اللهِ ! علِّمْني شيئًا أنتفعُ به، قال
" اعزِلِ الأذى عن طريقِ المسلمِين".
ولا يلقي بالقمامة في الطريق، بل إنّ على المسلم أن يرفع كل ما يؤذي المارة من شوك أو حجر أو كل ما يسبب الضرر، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
" الإيمانُ بِضْعٌ وسبعونَ أو بِضْعٌ وستُّونَ شُعبةً، فأفضلُها قول لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ".
ولا تنسَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالحكمة والموعظة الحسنة - فهو للمسلم شعار؛ فإذا رأيت طفلًا يعذب حيوانًا، فأوصه أن يكون بالحيوان رفيقًا، وإذا لاحظت أن البائع لم يجعل الوزن صحيحًا، فذكّره أن هذا يكون تطفيفًا، وهكذا...
وجمع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أداب الطريق في الحديث الذي رواه مسلم فقال
: " إياكم والجلوسَ في الطرقاتِ. قالوا : يا رسولَ اللهِ ! ما لنا بُدٌّ من مجالسِنا. نتحدثُ فيها. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلسَ، فأعطوا الطريقَ حقَّه. قالوا : وما حقُّه ؟ قال : غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، وردُّ السلامِ، والأمرُ بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ".
وبالإضافة إلى ما سبق فلا بد للمراة المسلمة أن يكون لها سلوكٌ إسلامي منضبط مع زيها الإسلامي، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي:
"المرأةُ عورةٌ فإذا خرجتْ استشْرَفَها الشيطانُ".
فتمشي على استحياء، كما ورد في سورة القصص عن ابنة الرجل الصالح لمـّا جاءت إلى موسى عليه السلام، لأن أباها لا يستطيع أن يأتيه بنفسه، قال الله:
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ [القصص:25].
كما تمشي على جانب الطريق بعيدًا عن الاختلاط بالرجال في وسطه؛ فقد روى أبو أسيد الساعدي أنه سمِعَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ وَهوَ خارجٌ منَ المسجدِ فاختلطَ الرِّجالُ معَ النِّساءِ في الطَّريقِ فقالَ للنِّساءِ:
"استأخِرنَ فإنَّهُ ليسَ لَكنَّ أن تَحقُقنَ الطَّريقَ عليكنَّ بحافَّاتِ الطَّريقِ فَكانتِ المرأةُ تلصَقُ بالجدارِ حتَّى إنَّ ثوبَها ليَعلَقُ بالجدارِ" رواه أبو داود.
وتكون حريصةً على عدم لفت الأنظار إليها بطريقة مشيها أو علو صوتها، حتى لا يطمع فيها أصحاب الأهواء؛ فلا تلبس الخلخال ولاتتحرك بحركة لتُظهر أو تُسمع ما كان من زينتها مخفيًا، ولا ما يصدر صوتًا أثناء مشيها كالكعب العالي ؛ لقوله تعالى:
﴿ولَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ولا تضحك أو تتكلم بصوت عالٍ يلفت إليها الأنظار، ويُعرف ما تتحدث به من أخبار، وإذا تحدثت مع الرجال لحاجة فلا تتحدث بصوتٍ وكلام فيهما ليونة ودلال؛ يقول الله تعالى في سورة الأحزاب:
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾.
وتبتعد عن كل ما يثير الشبهات؛ فالمسلم حريص على أن يقي عرضَه من طعنات الألسن بالسوء عليه، ومن هواجس النفوس به، فإنّ الهواجس مبادئ الظنون، و الظنون مطايا الأقوال، و الأقوال سهامٌ نافذة، فلِخَطَر هذه النهاية لزم الاحتراز من تلك البداية؛ فإذا قابلت أحدًا من محارمها في الشارع تجنبت السلام والقبلات.
عن ص
فية أمّ المؤمنين "أنها جاءتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزُورُه في اعتكافِه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدّثتْ عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبُها حتى إذا بلغت بابَ المسجد عند باب أمّ سلمة، مرّ رجلان من الأنصار فسلّمَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : على رَسْلِكُمَا إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله و كبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الشيطان يبلغ من الانسان مبلغ الدم و إني خشيتُ أن يقذِفَ في قلوبكما شيئاً".رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد أضاف العلماء رحمهم الله تعالى آدابًا أخرى على هذه الآداب أخذوها من أحاديث شريفة أخرى منها ؛ إرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس، و إغاثة الملهوف، والإعانة على الحمولة، وإعانة المظلوم, والإكثار من ذكر الله.
يقول الشاعر:
جمعت آداب مـن رام الجلوس على الـ = ـطريق من قول خير الخلق إنساناً
أفش الـسلام وأحــسن في الكلام وشـمِّـ = ـت عاطساً وسلاماً رُد إحسانا
في الحـمل عاون ومظلوماً أعن وأغث = لهفانَ واهد سبيلاً واهد حيرانا
بالعرف مُـر وانه عن نكْر وكفّ أذًى = وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا
هذه بعض الآداب التي يجب على المسلم مراعاتها أثناء مشيه في الطريق فلنحرص عليها.