لذلك طالب القرآن الناس أن يتفكروا، فقال عز من قائل:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا مثنى وفرادى ثم تتفكروا}سورة سبأ: [الآية: 46].
وقال: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}
سورة يونس: [الآية: 10].
وقال أيضاً: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق..}
سورة فصلت: [الآية: 52].
وَعَدَّ سبحانه المتفكرين من خلقه من أولي الألباب فقال:
{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب *....
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}
سورة آل عمران: [الآيتان: 190-191].
ولاشيء يسعد الروح ويشعرها بالنشوة والطرب مثل الذكر والفكر،
ولله در من قال:
وليُّ الله ليس له أنيس
فيذكره ويذكره فيبكي
سوى الرحمن فهو له جليس
وحيد الدهر جوهره نفيس
لكن القرآن في الوقت نفسه حارب الروحية البحتة المنقطعة عن الحياة؛
لأن فيها تعطيلاً لقوى الإرادة، وإهمالاً لطاقات العقل،
وقد أكد هذا المعنى النبي صل الله عليه وسلم (وهو الشارح للقرآن) في أحاديث عدة،
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا،
كأنهم تقالُّوها، قالوا: فأين نحن من رسول الله، وقد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟،
قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر،
وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صل الله عليه وسلم إليهم،
فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر،
وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))
أخرجه البخاري عن أنس.
وعندما أراد عبد الله بن عمرو بن العاص أن يتبتّل وينقطع عن الدنيا إلى عبادة خالقه
قال له صل الله عليه وسلم:
((صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقا))
وفي رواية أخرى: ((فأعط كُلَّ ذي حق حقه))
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمرو رضي الله عنه.
والتوازن بين مطالب الجسد والروح، فضلاً عن أنه انسجام مع الفطرة الإنسانية، ضرورة واقعية،
فيه خير للأمة والمجتمع، حيث تتكون الأسرة، ويتعاون أفرادها في تحقيق مطالب الحياة،
وهذا هو مبدأ الوسطية في الإسلام الذي صَرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى:
{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}
سورة البقرة: [الآية: 143].
أي جعلناكم أمة عدولاً، وقال الرسول صل الله عليه وسلم:
((خير الأمور أوساطها))