الفردوس
قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ.... ﴾ [النساء: 1]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...﴾ [آل عمران: 102]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا... ﴾ [الأحزاب: 70].
ان المسلم الحق تجده مترقياً في سلم السمو ممتثلاً محبة مولاه؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها" رواه الطبراني، وصححه الألباني.
وما زالت به الهمة في الصُّعُد حتى انتهت به إلى طلب خير النُزل؛ فكانت الجنة مطلبه، ومنتهى أمله،
والهمة تحدوه إلى الظفر بأعلى منازلها، حين جعل الفردوس نصب العين وقبلة القلب ومهوى الفؤاد. -
الفردوس أشرف منازل الجنة، وأعلى درجاتها، وخير نعيمها؛ فليس فوقه إلا عرش الرحمن،
من الفردوس تتفجر أنهار الجنة، وليس المنبع كالمجرى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،
فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّة"
رواه البخاري.
ولما أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ، جَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ،
فَقَالَ: «وَيْحَكِ، أَوَهَبِلْتِ، أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ»
رواه البخاري،
والفردوس موطن الأنبياء في الجنة، فقد دعا ابن مسعود والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعه فقال:
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ"
رواه أحمد وصححه ابن حبان.
والفردوس نزل أعده الله للأصفياء بيده، فقد سأل موسى عليه السلام ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة، فقال الله سبحانه:
"أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"
رواه مسلم.
-
إن طريق تحصيل الفردوس قد أبانه الله جل وعلا في صدر سورة المؤمنون في ست خصال تتحقق في المؤمن،
وتغدو صفة غالبة في حياته، يُلحظ فيها مراعاة العلاقة مع الله والنفس والخَلق.
أولى هذه الصفات:
الخشوع في الصلاة:
يقول الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]،
فقلوبهم في صلاتهم حاضرة، وجوارحهم ساكنة، وطرفهم لله منكسر، استشعروا قرب مولاهم، ونظرَه إياهم، وعلمَه بسرائرهم، ومردَّهم إليه؛
فذلت نفوسهم له، واطمأنت قلوبهم بذكره، وكانت قرة عينهم في وقوفهم بالصلاة بين يدي خالقهم،
فلا لذةً تعدل تلك اللذةَ التي بها تحملوا مفارقة الرغبات واصطبروا على طول القيام، ولو تفطرت الأقدام.
وثاني صفات ورثة الفردوس:
الإعراض عن اللغو:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 3]،
فليس لهم تعامل مع اللغو والعبث الذي لا فائدة منه إلا بالإعراض أياً كان هذا اللغو؛ فعلاً أو قولاً أو موقفاً أو مكاناً أو موقعاً أو قناةً،
وثالث صفات ورثة الفردوس:
التزكية:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4]،
زكوا نفوسهم من سفاسف الأخلاق ودناءات النفوس وأمراضها، وأدوا زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم؛ فكانت زكاتُهم زكاتَهم.
ورابع صفات ورثة الفردوس:
حفظ الفروج:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون: 5، 6]
حفظوا العورات بالستر والعفة، فلم تُر ولم تُلمس إلا بما أباح الله في النكاح والتسري،
وجعلوا بينهم وبين الفواحش حمىً مانعاً من الاقتراب فضلاً عن الولوج فيها حين غضوا أبصارهم عن رؤية ما حرم الله عليهم.
وخامس صفات ورثة الفردوس:
رعاية الأمانة والعهد:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]،
فهؤلاء الأبرار رعاة الأمانة والعهود، سواء كانت مع الله سبحانه أو مع الخلق،
فكل ما أوجبه الله على العبد أمانة يأتمنه عليها وإن كانت غسل جنابة أو استنجاءً من حدث أو إفصاحاً عن عدة،
وهكذا تتسع دائرة الأمانة؛ لتشمل تعاملَ الخلق مع بعضهم؛ فتصانَ أماناتُ الأموال والأسرار والحقوق.
وكذلك ترعى العهود والمواثيق التي يعقدها العبد مع ربه جل وعلا أو مع خلقه،
فيوفى النذر، وتُصدقُ التوبة، ويُعطى الأجيرُ أجره قبل جفاف عرقه، وينصح في الوظيفة، ويُنفَّذُ العقد دون غش أو تأخير.
هذا، وإن رعاية أولئك الأبرار للأمانة والعهود مطردة ثابتة لا تتغير بخيانة من تعاملوا معه، ممتثلين في عهودهم أمر الله إذ يقول:
﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58]،
وفي أماناتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك "
رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
وسادس الصفات وهو مرتبط بأولها:
المحافظة على الصلاة:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 9]
فيرقبون في صلاتهم الوقت والشروط والأركان والواجبات، ويأتون بالنوافل ترقيعاً للخلل وجبراً للنقص،
فلهم مع الصلاة وصفان لا تتم الصلاة إلا بهما؛ الخشوع والمحافظة.
وبعد، معشر الإخوة!
هذا نزل الفردوس، وتلك سبل تحققه، ألا فلنصدق العزم في الطلب، ولنتوكل على الله في الوصول،
ولنجاهد أنفسنا في ملازمة تلك الخصال؛ فمن جاهد هودي ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]