الجنة كأنك تراها (1) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحْبه والتابعين. وبعد: فلما كان الحديث عن دار السلام شائقًا ومُحبَّبًا إلى النفوس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحْبه والتابعين.
وبعد:
فلما كان الحديث عن دار السلام[1] شائقًا ومُحبَّبًا إلى النفوس المؤمنة؛ فإن الإطناب فيه أَولى من الإيجاز، والإسهاب أولى من الاختصار، وتناولي الحديثَ عن دار السلام، يَشرُف بذِكر أعظم نعيمها، وهو رؤية الله - تبارك وتعالى - ثم يتطرَّق بنا الحديث عن سَعة دار السلام، وأنهارها ومطاعمها ومشاربها، وسائر ألوان النعيم فيها، كما سيكون مصدر استقائنا - لما سوف نُورده من كلمات طيِّبات عن دار السلام - هو الكتاب والسُّنة وقول سلف الأمة؛ إذ الأول كتاب مَن أوجَدها، وأوجَد نعيمها، وخلَق أهلها، وهداهم، فأعدَّهم لها، وعرَّفهم بها، وأما السُّنة، فإنها إخبار مَن دخلها، ووطِئَت أقدامه أرضَها، وبلَغ سِدرة المنتهى فيها؛ كما قال - جل وعلا -: ï´؟ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ï´¾ [النجم: 13 - 15].
وأما السلف، فهم أعلم الناس بأمر الدين من غيرهم، فكل خيرٍ في اتِّباع من سلَف، وكل شرٍّ في ابتداع مَن خلف.
فما أعظم دار المتقين! وما أطيب رِيحها! دارٌ عرْضها السموات والأرض؛ قال تعالى: ï´؟ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [آل عمران: 133].
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لرَوحة في سبيل الله أو غَدوة، خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقابُ قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيدٍ - يعني: سَوطه - خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأةً من أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض، لأضاءَت ما بينهما، ولمَلأته ريحًا، ولنَصيفُها على رأسها، خيرٌ من الدنيا وما فيها))[2].
"فتفكَّر في أهل الجنة وفي وجوههم نَضرة النعيم، يُسقون من رحيق مختوم، جالسين على منابر الياقوت، مُتكئين على أرائكَ منصوبة على أطراف أنهار مُطردة بالخمر والعسل، محفوفة بالغِلمان والوِلدان، مُزينة بالحور العِين من الخيرات الحِسان، كأنهنَّ الياقوت والمَرجان، "شَكِلات غَنجات"[3]، لم يَطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جان، ينظرون فيها إلى وجْه الملك الكريم، وقد أشرَقت في وجوههم نَضرة النعيم، وهم فيما اشتَهت أنفسهم خالدون، لا يخافون فيها ولا يحزنون، ومن ريب المنون آمِنون.
فيا عجبًا لمن يؤمن بدارٍ هذه صِفتُها، ويُوقن بأنه لا يموت أهلها، ولا تَحُل الفجائع بمن نزَل بفنائها، كيف يأْنَس ويَهنَأ بعيشٍ دونها؟! والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان، مع الأمْن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحَدثان، لكان جديرًا بأن يَهجُر الدنيا بسببها، وألا يُؤثر عليها ما التصرُّمُ والتنغُّص من ضرورته، كيف وأهلها ملوك آمنون، وفي أنواع السرور مُمتعون، لهم فيها كل ما يَشتهون، وإلى وجه الله الكريم ينظرون، وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجِنان؟ ومهما أردتَ أن تعرف صفة الجنة، فاقرأ القرآن؛ فليس وراء بيان الله تعالى بيان، واقرأ قوله تعالى: ï´؟ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ï´¾ [الرحمن: 46]، إلى آخر سورة الرحمن، واقرأ سورة الواقعة وسورة الإنسان، وغيرهما من السور؛ ففيها ما يدلُّك على أن ثمَّة ما لا عين رأَت، ولا أُذن سمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ؛ كما ورد في الأثر، ويكفي من الاطِّلاع على جُملتها ما بيَّنا، وقد ورَد في تفصيل صفتها كثيرٌ من الأخبار المدوَّنة في الأسفار الكبار"[4].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله - تبارك وتعالى -: أعدَدتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذن سمِعت، ولا خطر على قلب بشرٍ))، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتُم: ï´؟ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ï´¾ [السجدة: 17][5].
مَن دخلها، فلا يخرج منها، وهو خالد مخلَّد فيها؛ قال الله - عز وجل -: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ï´¾ [الكهف: 107 - 108].
ولا شكَّ أن أعظم نعيم في الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، وهي اللذَّة التي لا تُوازيها لذة، والنعيم الذي ليس فوقه نعيمٌ؛ قال تعالى: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22 - 23].
وقد تواتَرت الأحاديث التي تُثبت أن المؤمنين يرون ربَّهم في الجنة بأبصارهم، ومنها ما رواه مسلم عن صُهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قول الله - عز وجل -: ï´؟ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ï´¾ [يونس: 26]، قال: ((إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، نادى منادٍ: إن لكم عند الله موعدًا يُريد أن يُنجزكموه، قالوا: ألم تُبيِّض وجوهنا، وتُنجنا من النار، وتُدخلنا الجنة؟! قال: فيُكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه))[6].
عن أبي هريرة قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال: ((هل تُضارون[7] في الشمس ليس دونها سحابٌ؟))، قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحابٌ؟))، قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك[8].....))[9].
فحَيَّ على جنَّاتِ عدْنٍ فإنَّها
مَنازِلُكَ الأُولى وفيها المُخَيَّمُ
ولكِنَّنا سَبْيُ العَدوِّ فهل تُرى
نَعود إلى أوطاننا ونُسَلّمُ[10]
أسأل الله - تبارك وتعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يَرزقنا رؤية وجهه الكريم في جنات ونهرٍ، في مقعد صدقٍ عند مليك مُقتدر.
[1] قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في "أصول الإيمان" : ومن أصول الإيمان: الإيمانُ بالجنة والنار، وأنهما المآل الأبدي للخلق، فالجنة دار النعيم التي أعدَّها الله للمؤمنين المُتقين الذين آمنوا بما أوجَب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله، مخلصين لله، مُتَّبعين لرسوله، فيها من أنواع النعيم ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذن سمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ؛ قال الله تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ï´¾ [البينة: 7 - 8]، وقال تعالى: ï´؟ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [السجدة: 17].
وأما النار، فهي دار العذاب التي أعدَّها الله تعالى للكافرين الظالمين الذين كفَروا به وعصَوا رُسله، فيها من أنواع العذاب والنَّكال، ما لا يَخطر على البال؛ قال الله تعالى: ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ï´¾ [آل عمران: 131]، وقال: ï´؟ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ï´¾ [الكهف: 29]، وقال تعالى: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ï´¾ [الأحزاب: 64 - 66].
[2] رواه البخاري (2796) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه.
[3] شَكِلات غَنِجات: وهنَّ المتحبِّبات إلى أزواجهنَّ، وأهل المدينة يقولون للمرأة العَرُوب المتحبِّبة إلى زوجها: "غَنِجة"، ويُسميها أهل العراق: "شَكِلة".
[4] كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين؛ للشيخ محمد جمال الدين القاسمي (330)، طبعة دار الكتب العلمية.
[5] متفق عليه؛ رواه البخاري (4779) واللفظ له، ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
[6] رواه مسلم (181)، والترمذي (3105) واللفظ له.
[7] قال شيخ الإسلام النووي - طيَّب الله ثراه -: "رُوِي (تُضارُّون) بتشديد الراء وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما، ومعنى المشدَّد: هل تُضارُّون غيرَكم في حالة الرؤية بزَحمةٍ أو مخالفة في الرؤية أو غيرها؛ لخفائه كما تفعلون أوَّل ليلة من الشهر؟ ومعنى المخفَّف: هل يَلحقكم في رؤيته ضَيْرٌ؟ وهو الضرر.
ومعناه: لا يَشتبه عليكم وتَرتابون فيه، فيُعارض بعضكم بعضًا في رؤيته، والله أعلم؛ شرح النووي على مسلم (1 - 394 )، طبعة دار الخير.
[8] "فإنكم تَرونه كذلك"، قال النووي - قدَّس الله رُوحه، ونوَّر ضريحه -: معناه: تَشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح، وزوال الشكِّ والمَشقة والاختلاف.
[9] متفق عليه؛ رواه البخاري (6574)، ومسلم (2968).
[10] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (209)، طبعة مكتبة الإيمان.