الظلم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعد: فقد اقتضت حكمة الله تعالى التمييز بين بعض الأشياء، والمفاضلة بينها؛ حتى تظهر حقيقة تلك الأشياء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعد:
فقد اقتضت حكمة الله تعالى التمييز بين بعض الأشياء، والمفاضلة بينها؛ حتى تظهر حقيقة تلك الأشياء واضحةً جلية أمام أعين الناس، ومن ذلك مثلاً: الليل والنهار، والظلمات والنُّور، والغِنى والفقر، والصحة والمرض؛ فحقيقةُ هذه الأشياء تظهر أكثرَ وأوضح بمعرفة ضدها، وفى القرآن الكريم أمثلةٌ كثيرة من ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ [فاطر: 19 - 22].
ولما كان حديثُنا السابق عن العدل، فقد رأينا - بعد توفيق الله - أن يكون الحديث هذه المرة عن الظُّلم، فنقول وبالله التوفيق:
إذا كان العدلُ هو الإنصافَ والمساواة وعدم الجَوْر، فإن الظُّلم هو وضعُ الشيء في غيرِ موضعه، وأصله: الجَوْر وتجاوز الحد، وقد نهى اللهُ عباده عن الظُّلم، وحرَّمه فيما بينهم؛ ففي الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر: ((يا عبادي، إني حرمت الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظالَموا))؛ أي: فلا يظلِمْ بعضُكم بعضًا، وقد نزَّه الله نفسَه عن الظُّلم فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: 44]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]؛ ففي تلك الآيات وغيرها ينفي اللهُ سبحانه عن نفسِه الظُّلمَ؛ وذلك يعني إثباتَ كمال عدله سبحانه وتعالى، وقد أخبرنا القرآنُ الكريم أن الإنسانَ هو أكثرُ مخلوقات الله ظلمًا لنفسه ولغيره، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]؛ فظَلُوم: صيغةُ مبالغة على وزن فعول؛ أي: كثير الظُّلم.
وفى السنَّة المطهرة أحاديثُ كثيرة ينهى فيها الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن الظُّلم، ويبيِّن مساوئَ الظُّلم وعاقبةَ الظالمين، فمن ذلك ما رواه البخاريُّ: ((الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة))، وفي مسلم عن جابر: ((اتقوا الظُّلم؛ فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة))، وفي الصحيحينِ عن أبي موسى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اللهَ ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه))، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
وإذا كان العدلُ أقسامًا، فإن الظُّلمَ كذلك أقسام، منها: ظلم يقع من الإنسانِ فيما بينه وبين ربه، وأعظَمُه: الإشراكُ في عبادة الله؛ لأن المشرك يأخذ حقَّ الله ويعطيه لغيره؛ فهو بذلك يضع الأشياءَ في غير موضعها، وذلك هو الظُّلم؛ فالله خلَق عباده من أجل عبادته وحده، وأمَرهم أن يتعبَّدوه بأنواع العبادة المختلفة؛ من ذبح، ونَذْر، ودعاء، وحَلِف، واستعانة، واستغاثة... إلخ، فتوجَّه كثيرٌ مِن خَلق الله بذلك إلى غير الله من الموتى والمقبورين، فصرَفوا لهم عباداتهم من دون الله، وطلبوا منهم قضاء الحاجات، وإجابةَ الدعوات، وكشف الكُربات، وقد سمَّى الله صرف العبادة لغيره افتراءً، والافتراء ظلم، فقال تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ [النحل: 56]؛ فالإشراك في عبادة الله من أعظمِ الظُّلم؛ قال تعالى فيما وصَّى به لقمانُ ابنَه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، وفي الصحيحين ما معناه: أنه لما نزل قولُه تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على الصحابة، وقالوا: "أيُّنا لم يظلِمْ نفسَه؟"، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس كما تظنُّون، وإنما هو ما قال لقمان لابنه: ﴿ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، وقد بيَّن القرآنُ الكريم حال الظالِمين المشركين حين احتضارِهم وخروج أرواحهم، وما هم فيه من الكرب والشدَّة بسبب شِركهم وقولهم على الله بغير حق، فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 93، 94].
ومن أقسامِ الظُّلم أيضًا: ظُلم الإنسان لغيره، بالاعتداء على حقِّه، والإساءة إليه، وأكلِ ماله بغير حق، وغير ذلك مما نُهِينا عنه، ويدل على ذلك القسمِ من الظُّلم مخالفةُ الناس لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلمٌ عن جابر بن عبدالله: ((إن دماءَكم وأموالكم حرامٌ عليكم))؛ فالله حرَّم قتل النفس إلا بحقها؛ فخالف كثيرٌ من الناس أمرَ الله، وراح بعضهم يضرب رقابَ بعض، وكذلك حرَّم اللهُ أكل أموال الناس بالباطل، فتفنَّن الناسُ في أكل أموال بعضهم بعضًا بصور شتى، منها: أكلُ الربا، وأخذ الرِّشوة، وأكل أموال اليتامى ظُلمًا، واستغلال الوظائف للإثراء الفاحش، كذلك حرَّم اللهُ على المسلم الوقوعَ في أعراض إخوانِه من المسلمين، وأكلَ لحومِهم، وتتبُّعَ عَوْراتهم، والسخريَّة منهم، والاستهزاء بهم؛ لأن ذلك من الظُّلم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذِّرُنا من ظلم الناس فيقول في حديث البخاري: ((مَن كانت عنده مظلمةٌ لأخيه من عِرضٍ أو مال، فليتحلَّلْه منه اليوم قبل ألا يكونَ دينارٌ ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ من حسناته بقدر مظلمتِه، فإن لم يكُنْ له حسناتٌ أُخِذ من سيئاتِ صاحبه فحُمِل عليه)).
ومن الظُّلم أيضًا: ظُلمُ الإنسانِ نفسَه؛ وذلك بدَفْعها لارتكاب الآثام والذنوب والوقوع في محارمِ الله، وتعدِّي حدوده، وعدم الالتزام بأوامره؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
وقد بيَّن القرآنُ الكريم أن عاقبةَ الظُّلم وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، وأن سببَ هلاك الأمم ودمار القرى وخراب الديار إنما هو ظلمُ أهلها؛ قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]، وقال تعالى: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾ [النمل: 52]، وكذلك أخبرنا القرآنُ أن الظُّلمَ وسيلةٌ لحرمان الإنسان من نِعَمِ الله عليه، فقال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [النساء: 160]، ألاَ فليتَّقِ اللهَ الظالِمون الذين يظلِمون عبادَ الله، ويظلمون أنفسَهم، وليعلموا أن اللهَ لهم بالمرصاد.