منتديات انفاس الحب - سخونة الصيف وسخونة التراث

قد يكون الصيف هو من أكثر الأوقات ملاءمة للتأمل والتعرف على ثقافات العالم فعادة ما تكون هذه الفترة من السنة هي فترة استرخاء وهدوء ومكافأة للنفس على عمل وجهد طوال العالم، لذلك غالباً ما تكون النشاطات العالمية الكبيرة مثل المونديال واجتماعات لجنة التراث في فصل الصيف..

كان هذا الأسبوع حافلاً من الناحية التراثية فمن جهة بدأت اجتماعات التراث العالمي الثانية والأربعون في البحرين والتي عادة ما يتمخض في نهايتها تسجيل عدد من المواقع الجديدة على لائحة التراث العالمي ومن جهة أخرى انطلق سوق عكاظ في نسخته الثانية عشرة في مدينة الطائف. سخونة الصيف انعكست على سخونة الملفات التي تم طرحها على المستوى الثقافي والحضاري للشعوب الإنسانية بشكل عام، فالتراث الذي يعتبر من أعقد المواضيع من الناحية التوثيقية والإدامة يحظى غالباً بدعم اقتصادي متواضع لا يتناسب مع القيمة الإنسانية الكبيرة التي عادة ما يمثلها والخسائر التي لا يمكن تعويضها في حال فقدان هذا التراث. ربما تمثل المملكة حالة مغايرة في دعمها لتراثها الحضاري الذي كان يطلق عليه الأمير سلطان بن سلمان «البعد الرابع» للمملكة قبل أن يعمل بكل جد على تأسيس برنامج خادم الخرمين للعناية بالتراث الحضاري قبل عدة سنوات، وفي اجتماعات البحرين سوف يتم مناقشة ملف الأحساء الذي تقدمت به المملكة للتسجيل على لائحة التراث العالمي وأتمنى مع صدور هذا المقال أن يكون هذا الموقع قد تم تسجيله بإذن الله.

قد يكون الصيف هو من أكثر الأوقات ملاءمة للتأمل والتعرف على ثقافات العالم فعادة ما تكون هذه الفترة من السنة هي فترة استرخاء وهدوء ومكافأة للنفس على عمل وجهد طوال العالم، لذلك غالباً ما تكون النشاطات العالمية الكبيرة مثل المونديال واجتماعات لجنة التراث في فصل الصيف. أنا شخصياً أرى هذه العلاقة بين الصيف وبين النشاط الإنساني الثقافي العالمي مرتبط بالحاجة إلى التعرف على الآخر من جهة وبالتنمية الإنسانية والثقافية جهة أخرى فلا أحد ينكر أن «التراث» هو مخزون ثقافي لكنه في نفس الوقت مورد سياحي متجدد وبالتالي فإن القيمة التي قد تجذب رأس المال للتراث هي قدرته على أن يكون جاذباً اقتصادياً. هذه القضية بالذات أثيرت في اجتماعات عقدت بين منظمة السياحة العالمية وهيئة الأمم المتحدة واليونسكو في كمبوديا قبل ثلاثة أعوام وفي سلطنة عمان قبل عدة شهور وكانت نتيجتها هذا التصاعد المهم لقيمة التراث التنموية، لأنه يبدو أن القيمة الإنسانية لهذا المورد غير منظورة من قبل كثير من الشعوب التي تعاني من الفاقة ولديها أولويات آنية تجعلها لا تعبئ كثيراً بإرثها الإنساني.

القيمة الكبيرة التي يمثلها التراث هو كونه مورد معرفي لا يعيه كثير من الناس ففي اجتماعات لجنة التراث في البحرين طرحت العديد من القضايا المهمة حول جوانب معرفية متعددة مرتبطة بعناصر التراث التي عادة ما تغذي النشاطات الإبداعية المختلفة، ففي العمارة والفنون التشكيلية وفي الموسيقى وفي المأكل والملبس والمشرب هناك مصدر مفتوح للإلهام يمثله التراث، وهذا المصدر ملك للجميع لا يستطيع أحد أن يدعي ملكيته منفرداً، بل أن تقاطع التراث بين ثقافات العالم يمثل مورد أكبر يفتح المخيلة على الابتكار، ولعل هذا ما يجعل هذا الموضوع ساخناً في الفترة الحالية إذ يبدو أن البشرية ملت من محاولات الانقطاع عن الجذور وبدأ كثير من الناس يرى أن ما يميز العنصر البشري هو «تاريخيته» أو امتداداته التاريخية والتي يشكل التراث المادي وغير المادي الجانب «شبه الغامض» الذي يمكن المحافظة عليه وصيانته لكن في نفس الوقت تطويره وصنع ابتكارات جديدة من خلاله.

الفكرة التي أراها ناقصة في موضوع التراث الانساني هي عدم استغلال «الغموض» وعدم المحاولة الجادة للبحث عن أصول التراث التي هي في حقيقتها غامضة وصعبة التعريف، ومن ثم محاولة توظيف هذه المكتشفات لصنع تراث إنساني مواز للتراث التاريخي. لقد طرحت هذه الفكرة بشكل متعدد خلال العامين الأخيرين ويبدو أن فكرة «التراث الموازي» تحظى بالسخونة الكافية التي تجعلها تشكل وجه العملة الآخر للتراث التاريخي، فإذا كنا نريد للتراث أن يكون مورداً تنموياً فيجب أولاً صيانة التراث التاريخي كي يكون مصدراً معرفياً عميقاً ومتجدداً وأن نبتكر تراثاً موازياً معاصراً له نسب ومتصاهر مع التراث التاريخي لكنه يخوض في عوالم جديدة معاصرة ومستقبلية