منتديات انفاس الحب

منتديات انفاس الحب (https://a-al7b.com/vb/index.php)
-   ۩۞۩{ انفاس القرآن الكريم وعلومه }۩۞۩ (https://a-al7b.com/vb/forumdisplay.php?f=96)
-   -   تفسير سورة الكهف الآيات (99 – 110) (https://a-al7b.com/vb/showthread.php?t=76004)

غيمہّ فرٌح 23-09-2022 04:35 AM

تفسير سورة الكهف الآيات (99 – 110)
 

﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 99 - 110].

المفردات:
يموج: أي يختلط ويضطرب.

وعرضنا جهنم: أي وأبرزها وأظهرها.

أفحسب: همزة الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، والحِسبان - بكسر الحاء - بمعنى الظن والفاء عاطفة على مُقدَّرٍ مناسب سيأتي في التفسير.

أولياء: جمع وَليّ، وهو الناصر أو الشفيع أو المعبود، والمراد هنا المعبودين.

أعتدنا: أي أعددنا وهيَّأنا.

نُزُلًا: ما يُقدم للنزيل؛ أي الضيف عند نزوله من طعامٍ ونحوه يتمتع به على سبيل التكريم والترحيب، وقِيل: النُّزُل المَنْزِل، وموضع النزول وإقامة النزيل.

ضل سعيهم: أي ضاع عملهم وبَطل عند الله عز وجل.

الفردوس: أصله في اللغة البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين، وفي أساس البلاغة: هو البستان الواسع الحسن، والجمع فَرَادِيسُ، وقِيل: الفردوس البستان بالرومية، وهي أعلى درجات الجنة وأوسطها وأفضلها.

مدادًا: المداد في الأصل: اسم لكل ما يُمدُّ به الشيء، واخُتص في العُرف بما تُمدُّ به الدواة من الحبر.

لكلمات ربي: أي لكلماته الإبداعية والتشريعية، والخَبَرية في اللوح المحفوظ، وفى القرآن الكريم، وفى شأن الكون حاضره ومستقبله، دنياه وأُخْراه.

التفسير:
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾:
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾:
هناك ثلاث وُجوه:
الأول: ظاهر النظْم القرآني الكريم: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، إن الضمير في قوله تعالى: ﴿ بَعْضَهُمْ عائد إلى يأجوج ومأجوج، و﴿ يَوْمَئِذٍ﴾؛أي: يوم كمال السد، وعليه فالمعنى: وبعد إتمام السد تركنا يأجوج ومأجوج يموج في بعض، يضطربون اضطراب موج البحر، لَمَّا مُنعوا من الخروج والفساد في الأرض بسبب السد، ولا يزالون مَائجين مضطربين حتى يُنجز الوعد الحق، فيَنْدك السد ويُسوَّى بالأرض، وعليه اقتصر الفخر الرازي، واختاره صاحب البحر.



الثاني: ﴿ يَوْمَئِذٍعائد إلى يوم يدكَّ هذا السد، فيخرج يأجوج ومأجوج فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويُتلِفون أشياءهم، واستُشهِد بقوله تعالى: ﴿ جَعَلَهُ دَكَّاءَفي الآية السابقة، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ[الأنبياء: 96]، وهكذا قال السدي وغيره.

الثالث: وهو الأرجح؛ والضمير في ﴿ وَتَرَكْنَا يعود إلى الله تعالى، والضمير في ﴿ بَعْضَهُمْ يعود إلى جميع الخلائق كافة من الإنس والجن، و﴿يَوْمَئِذٍتعود على يوم القيامة لقوله فيما يلي: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وتقدم ذِكر القيامة في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي في الآية السابقة، وعليه فالمعنى: يجتمع جميع الخلائق من الإنس والجن، فيكثرون ويدخل بعضهم على بعض، ويموج بعضهم ببعض في فزعٍ من كثرة الخوف والتخبط من الأهوال والزلازل العِظام عند قيام الساعة؛ كما رُوي عن ابن عباس رضى الله عنهما.

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾؛أي ونأمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ في الصور، وهو القَرْن أي البوق العظيم المُوَكل بالنفخ فيه إسرافيل عليه السلام كما ثبت في السنة، وقد صَحَّ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخَ‏"، وهو ينفخ نفختين: الأولى نفخة الصعق، والأخرى نفخة البعث والقيام من القبور، وهما المذكورتين في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر: 68]، والمراد في الآية النفخة الأخرى بدليل ما بعدها، والضمير في قوله سبحانه: ﴿ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًاللخلائق كلها - ومنهم يأجوج ومأجوج - أي عقب النفخ الثاني في الصور والقيام من القبور، نَجمع الخلائق كلها جَمْعًا عظيمًا هائلًا، أولهم وآخرهم، إِنسهم وجِنَّهم، مؤمنهم وكافرهم، بعد ما تفرقت أوْصالهم، وتمزقت أجسامهم، نجمعهم في صعيد واحد للحساب والجزاء؛ كما في قوله تعالي: ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ[الواقعة: 49-50]، وقوله سبحانه: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا[الكهف: 47].

﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾:
هذا إخبار منه تبارك وتعالى عما يفعله بالكافرين يوم يجمع الخلائق جميعًا للحساب والجزاء.

والمعنى: وأبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين إظاهرًا جليًّا؛ حيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، ويبصرون ما أعد لهم من العذاب والنكال قبل دخولها؛ ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، وليعلموا أنهم مواقعوها لا يجدون عنها مَصرِفًا، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بجَهَنَّمَ تُقادُ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها‏"، وقال تعالى: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23]، وينبغي ألا يغفل الإنسان عن أن أمور الآخرة لا تُقاس بأمور الدنيا؛ فعليه أن يُسَلِّم بما جاء في شأنها من النصوص الصحيحة ويدع بيان المراد منها للعليم بحقائق الأمور سبحانه!



﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾:
﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي، هذا بيان منه سبحانه لبعض أوصاف الكافرين الذين استحقوا بسببها هذا العذاب والنكال؛ أي: هؤلاء الكافرون كانت أعينهم - وهم في الدنيا - في غشاوة غليظة محيطة بها، فتغافلوا وتعامَوْا عن النظر في آياتي المؤدية إلى توحيدي وتمجيدي وذكري وطاعتي، والمنبثة[1] في الأنفس والآفاق، قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ [فصلت: 53]، ويجوز أن يُراد ذكره تعالى الذي أنزله على رسله ودعا إليه عباده.

وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا نَفْيٌ لسَمعهم آياتِه على أتم وجه وأبلغه، والمراد أنهم سدُّوا على أنفسهم منافذ العلم من البصر والسمع؛ كفاقدي السمع أصَالةً مع تغافلهم وتَعَامِيهم عن التدبر في آياته تبارك وتعالى المؤدية إلى ذكره، وما ينبغي لجلال وجهه، وذلك كان دأبهم الذي اعتادوا عليه واستمروا عليه.

﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾:
ثم يعقب سبحانه على هذا الوعيد الشديد للكافرين، بالتَّهَكُم اللاذع لهم، فأنكر عليهم اتخاذهم لبعض عباده المقربين آلهة، يعبودنهم من دونه أو أنصارًا لينصرونهم من عذابه؛ فيقول سبحانه: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ، والمراد في قوله تعالى: "عِبَادِي" الملائكة وعيسى عليه السلام وعزيز ونَحْوَهم، لا الشياطين والأوثان والأحجار وغيرها؛ لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالبًا، والمعنى: أَجَهِل هؤلاء الذين كفروا بي، فظنوا أن اتخاذهم بعض عبادي آلهة أو أنصارًا سوف ينجيهم من عذابي؟! كلَّا، إنهم لفي ضلال مبين، وإذا كان اتخاذهم عبادي المقربين لا ينجيهم ولا ينفعهم، فكيف بآلهتهم من الأوثان والأحجار؟! ألا إنهم وآلهتهم من الأوثان والأحجار حَصُب جهنم وبئس القرار، والفاء للعطف على مُقدَّرٍ يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعًا، ثم أكدَّ سبحانه هذا الإنكار على الكافرين به، فقال:﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا؛ أي إنَّا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عِوَضًا عن عبادتهم لغيرنا واتخاذهم أولياءَ، ولسوء اختيارهم لما أعدوه لأنفسهم من أعمالٍ كانوا يحسبونها ذخرًا لهم، أو إنَّا أعددنا لهم جهنم مَنْزِلًا يَنْزِلونه مُتْعَةً لهم! وفي هذا من التَّهَكُم بهم والتَّقْرِيع لهم والتَّخْطِئَة[2] في حِسْبَانهم ذلك، مع الإِيماء بأن لهم من وراء جهنم ألوانًا أخرى من العذاب، وليست جهنم إلا مقدمة له، لأن جهنم ليست نُزُل[3] إكرامٍ للقادم عليها، كما في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24]، وأمَّا إذا كان النُزُل بمعنى المَنْزِل وإقامة النزيل؛ فالمراد انعكاس مقصودهم من النجاة إلى الهلاك.

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾:
قِيل: إن المراد بهؤلاء الأخسرين أهل الكتابين: اليهود والنصارى، قال ابن كثير - رحمه الله -: "روى البخاري عن مُصْعَب قال: سألت أبي - يعني: سعد بن أبي وقاص - ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا أهم الحَرُورِية[4]؟ قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فلأنهم كذَّبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فلأنهم كفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها ولا شراب، ولكن ظاهر الآية أنها عامة، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وإنما هي عامة في كل من عَبَد الله على غير شريعته التي شرعها لعباده، يحسب أنه مُصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود؛ أي قل أيها الرسول لمن يتخذ خاصة عبادي من دوني أولياءَ: "هل أخبركم بأشد الناس خُسرانًا لأعمالهم وحِرمانًا من ثوابها؟

ثم فسرهم بأنهم ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾:
إن الأخسرين أعمالهم من سائر المِلَل والنِّحَل[5] أتْعَبوا أنفسهم في أعمالٍ يبتغون بها ثوابًا وفضلًا، فنالوا بها هلاكًا وخُسرًا، كالذي اشترى سلعة يرجو بها ربحًا عظيمًا، فخاب رجاؤه وخسر خُسرانًا مبينًا، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور: 39]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا [الفرقان: 23].

ثم بيَّن سبحانه ما ترتب على كفر أولئك الأخسرين أعمالًا، من الجزاء السيئ على ما صنعوا وحبوط أعمالهم وسقوط منزلتهم، فقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا؛ أي: أولئك الضالون الخاسرون الذين ضلَّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون في أعمالهم! وقد جحدوا آيات ربهم ودلائله الداعية إلى توحيده وتمجيده، وضموا إلى جحودهم آيات ربهم إنكارهم البعث في اليوم الآخر، وما يتبعه من الجزاء على الأعمال، فمِن ثَمَّ حبطت أعمالهم وبطلت، وإِذًا: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ، بل نَزْدَريهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارًا؛ لأنه لا مقدارًا يومئذٍ إلا بالعمل الصالح، وأولئك مُجَردون من العمل الصالح، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّهُ لَيَأْتِيُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وقال: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ، أو المعنى: لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا؛ لأنها حبطت وصارت هباءً منثورًا.

وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾:بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إِثر بيان أعمالهم المُحبطة بذلك الكفر؛ أي ذلك جزاؤهم الذي جزيناهم به بسبب كفرهم بي، واتخاذهم رسلي وآياتي التي أيَّدهم بها هزؤًا وسخريةً! فلم يكتفوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل، بل ارتكبوا عظيمة أخرى، وهي الاستهزاء بالمعجزات الباهرة التي أيَّدتُ بها رسلي عليهم السلام، وبالصحف الإلهية المُنزلة عليهم.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾:
بعد أن ذكر الله سبحانه ما أعدَّه من العذاب للذين كفروا بآيات ربهم، واستهزأوا برسله - ذكر جزاء الذين آمنوا به وبلقائه وعملوا الصالحات.

قال الألوسي تبعًا لأبي السعود: هذا بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة أثر بيان مآلهم بطريق الوعيد؛ أي: إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه، وعملوا الصالحات من الأعمال، كانت لهم فيما سبق من حكمه تعالى ووعده أعلى الجنات مَنزِلة وأرفعها درجة، وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سَألْتُمُ اللَّهَ فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإنَّهُ وسَطُ الجَنَّةِ، وأعْلى الجَنَّةِ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ".

﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾:
أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدًا؛ قال ابن كثير: وفي قوله: "﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا تَنْبِيهٌ على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يُتَوَهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يَمَلُّه؛ فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحوَّلًا ولا انتقالًا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بَدَلًا"؛ ا .هـ.

وفي ذلك إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الفضل الأَزَلي، بخلاف ما أَمَرَ مِنْ جَعْل جهنم للكافرين نُزُلًا بموجب ما حدث من سوء اختيارهم.

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾:
سبب النزول: روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن حُيي بن أخْطَب قال: في كتابكم ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]، ثم تقرؤون ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]، (ومُرَاده الاعتراض بوقوع التناقض في القرآن الكريم؛ بناءً على أن الحكمة هي العلم، وأن الخير الكثير هو عَيْن الحكمة، لا آثارها وما يترتب عليها؛ لأن الشيء الواحد لا يكون قليلًا وكثيرًا في حالة واحدة).

فكانت الآية الكريمة جواب عن ذلك؛ بالإرشاد إلى أن القِلة والكثرة من الأمور الإضافية، فيجوز أن يكون الشيء كثيرًا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيءٍ آخر، فإن ماء البحر مع عظمته وكثرته - خصوصًا إذًا ضُمَّ إليه أمثاله - قليل بالنسبة إلى عظمة المِداد الذي تُكتب به كلماته تعالى ومعلوماته.

ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مِدادًا للقلم الذي تُكتب به كلمات ربي في التشريع وغيره، لنَفِد هذا المِداد وفَنِي قبل أن تنفد كلمات ربي وتَفْنَى، ولو جِئنا بمثل هذا الماء العظيم مَدَدًا وعَوْنًا؛ لأن جميع ما في الوجود - على التعاقب والاجتماع - مُتَنَاهٍ، وعِلْم ربي وكلماته لا تَتَنَاهَى.

وليس قوله تعالى: ﴿ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، للدلالة على أن ثَمَّ نَفادًا لكلماته في الجملة مُحققًا أو مُقدرًا؛ لأن المراد منه: لنَفِد البحر وكلماتُ ربي باقيةً قائمة كما هي لا يعْتَريها فناء ولا نقص، فما عِلم العباد جميعًا بجانب عِلمه تبارك وتعالى إلا كقطرةٍ من ماء البحور كلها، وفي معنى هذه الآية الكريمة قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27].

ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بنحو ما بدأها به، من البشارة والنذارة، فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾؛أي قُل أيها الرسول للمشركين وللناس جميعًا: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا أدَّعي الإحاطة بكلماته جل وعلا، ولا أعلم إلا ما علمني ربي، وقد أُوحي إليَّ أنما إِلَهُكُم الذي يجب أن تعبدوه هو إلهٌ واحد لا شريك له.

﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا: أي فمن كان يأمُل تكريم ربه بالثواب وحُسُن الجزاء عند لقائه، فليعمل عملًا صالحًا موافقًا لشريعة الله، ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾؛أي ولا يُرِدْ بعبادة ربه إلا وجهه وحده لا شريك له، وهذان هما الركنان اللذان لا بد عمل مُتَقبَّل أن يكون خالصًا لله سبحانه، وأن يكون صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال اللهُ تعالَى: "أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ تركتُهُ وشِركَهُ"[6]، وروى الشيخان عن جُندب بن عبد الله رضب الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ به، ومَن يُرائِي يُرائِي اللَّهُ بهِ"[7].

وروى مسلم عن أبي هريرة أيضًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ".

اللهم ارزُقنا الإخلاص في القول والعمل، وتولَّنا بما يتولى به عباده الصالحين.

[1] المنتشرة والظاهرة.

[2] من الخطأ.

[3] نُزُل: ما يُقدم للنزيل أي الضيف عند نزوله من طعامٍ ونحوه يتمتع به على سبيل التكريم والترحيب وقِيل النُزُل موضع النزول وإقامة النزيل كما تقدم أعلاه.

[4] الحَرُورِية هم فرقة مِن فرَق الخوارج، وكان مبدأُ خُروجِهم من بلدة حَرُوراءَ بقرب الكوفة بالعراق فنُسِبوا إليها.

[5] المِلل جمع مِلة وهى الطريقة المقتبسة من الغير، كقول الله سبحانه ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [البقرة: 135], أما النِحَل جمع نِحْلة والمراد بها الدِّين والدعوى، ولكن النِحَل غالبًا تستعمل في الباطل، حيث يقال انتحال المبطلين

[6] قال النووي في رياض الصالحين: معناه من أظهر عمله للناس رياءً فضحه الله يوم القيامة.

[7] أي من سمَّع الناس بعمله أو راءاهم به ليحمدوه ويُثنوا عليه؛ أظهر الله سريرته لهم، وملأ أسماعهم من سوء الثناء عليه في الدنيا والآخرة، ولم يظفر بما أظهره إلا بإبداء ما انطوى عليه من خبث السريرة.

- وَرد. 23-09-2022 08:27 AM

-






بارك الله فيك
وَ جزاك عنا كل خير
تقديري.

- شقاء.. 23-09-2022 09:27 AM

_
،



















جَزَاكَ اَللَّهُ خَيْر . . .
وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فِيمَا قَدَّمَتْ
دُمْتُ بِرِضَى اَللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ
~

- آتنفسك❀ 23-09-2022 11:12 AM

جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض ..
بآرك الله فيك على الطَرح القيم وَ في ميزآن حسناتك ..
آسأل الله أنْ يَرزقـك فسيح آلجنات !!
دمت بحفظ الله ورعآيته ..
لِ روحك

ʂąɱąя 23-09-2022 11:12 PM

جزاك الله خيراا:rose:

تَنْهِيدَةٌ نآي 24-09-2022 06:54 PM

,‘*
سَلمتْ أنآملكْ ، وشُكراً لكْ ,

وبِ إنتظآر المزيد من هذآ الفيض ,
لقلبكَ السعآده والفـرح ..

|‘,

قَـلـبْ 26-09-2022 04:36 AM




جزاك الله خير:241:
وجعله في موازين حسناتك:241:
وانارالله دربك بالايمان:241:
ماننحرم من جديدك المميز:241:
امنياتي لك بدوام التألق والابداع:241:
دمـت بحفظ الله ورعايته:241:

Š₳ħββє 26-09-2022 07:53 PM

.
.










جَزآك آلمولٍى خٍيُرٍ " .. آلجزآء .. "
و ألٍبًسِك لٍبًآسَ
" آلتًقُوِىَ " وً " آلغفرآنَ "
وً جَعُلك مِمَنً يٍظَلُهمَ آلله فٍي يٍومَ لآ ظلً إلاٍ ظله .~
وً عٍمرً آلله قًلٍبًك بآلآيمٍآنَ .~
علًىَ طرٍحًك آلًمَحِمًلٍ بنًفُحآتٍ إيمآنٍيهً .!

للهَ درِك

..||**

_ ريِمآ . 27-10-2023 06:23 PM

-



جزآك الله عنا كل خير
ولا حرمك الأجر وفي موازين حسناتك
أدآمك الرحمن .. :-ff1 (8):


الساعة الآن 06:14 PM

تصحيح تعريب Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024 
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant